فصل: باب ما جاء في الأقسام على الله

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: القول المفيد على كتاب التوحيد **


باب ما جاء في الأقسام على الله

الأقسام‏:‏ مصدر أقسم يقسم إذا حلف‏.‏

والحلف له عدة أسماء، هي‏:‏ يمين، وألية، وحلف، وقسم، وكلها بمعني واحد، قال تعالى‏:‏ ‏{‏فلا أقسم بمواقع النجوم‏}‏ ‏[‏الواقعة‏:‏ 75‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏للذين يؤلون من نسائهم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 226‏]‏، أي‏:‏ يحلفون، وقال‏:‏ ‏{‏لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 225‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏يحلفون بالله لكم ليرضوكم ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 62‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وأقسموا بالله جهد أيمانهم‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 53‏]‏‏.‏

واختلف أهل العلم في ‏{‏لا‏}‏ في قوله‏:‏ ‏{‏لا أقسم‏}‏‏.‏

فقيل‏:‏ إنها نافية على الأصل، وإن معني الكلام‏:‏ لا أقسم بهذا الشيء على المقسم به، لأن الأمر أوضح من أن يحتاج إلى قسم، وهذا فيه تكلف، لأن من قرأ الآية عرف أن مدلولها الإثبات لا النفي‏.‏

وقيل‏:‏ إن ‏{‏لا‏}‏ زائدة، والتقدير أقسم‏.‏

وقيل‏:‏ إن ‏{‏لا‏}‏ للتنبيه، وهذا بمعني الثاني، لأنها من حيث الإعراب زائدة‏.‏

وقيل‏:‏ أنها نافية لشيء مقدر، أي لا صحة لما تزعمون من انتفاء البعث، وهذا في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا أقسم بيوم القيامة‏}‏ فيه شيء من التكلف والصواب أنها زائدة للتنبيه‏.‏

والإقسام على الله‏:‏ أن تحلف على الله أن يفعل، أو تحلف عليه أن لا يفعل، مثل‏:‏ والله، ليفعلن الله كذا، أو والله، لا يفعل الله كذا‏.‏

والقسم على الله ينقسم إلى أقسام‏:‏

الأول‏:‏ أن يقسم على ما أخبر الله به ورسوله من نفي أو إثبات، فهذا لا بأس به، وهذا دليل على يقينه بما أخبر الله به ورسوله، مثل‏:‏ والله، ليشفعن الله نبيه في الخلق يوم القيامة، ومثل‏:‏ والله، لا يغفر الله لم أشرك به‏.‏

الثاني‏:‏ أن يقسم على ربه لقوة رجائه وحسن الظن بربه، فهذا جائز لإقرار النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ذلك في قصة الربيع بنت النضر عمة أنس بن مالك رضي الله عنهما، ‏"‏ حينما كسرت ثنية جارية من الأنصار، فاحتكموا إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فأمر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالقصاص، فعرضوا عليهم الصلح، فأبوا، فقام أنس بن النضر، فقال‏:‏ أتكسر ثنية الربيع‏؟‏ والله يا رسول الله لا تكسر ثنية الربيع‏.‏ وهو النضر، فقال‏:‏ أتكسر ثنية الربيع‏؟‏ والله يا رسول الله لا تكسر ثنية الربيع‏.‏ وهو لا يريد به رد الحكم الشرعي، فقال الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ‏:‏ ‏(‏يا أنس ‏!‏ كتاب الله القصاص‏)‏، يعني‏:‏ السن بالسن‏.‏ قال‏:‏ والله، لا تكسر ثنية الربيع ‏"‏، وغرضه بذلك أنه لقوة ما عنده من التصميم على أن لا تكسر ولو بذل كل غال ورخيص أقسم على ذلك‏.‏

فلما عرفوا أنه مصمم ألقي الله في قلوب الأنصار العفو فعفوا، فقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ‏:‏ ‏(‏إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره‏)‏ ، فهو لقوة رجائه بالله وحسن ظنه أقسم على الله أن لا تكسر ثنية الربيع، فألقي الله العفو في قلوب هولاء الذين صمموا أمام الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ عليه شهادة بأن الرجل من عباد الله، وأن الله أبر قسمه ولين له هذه القلوب، وكيف لا وهو الذي قال‏:‏ بأنه يجد ريح الجنة دون أحد، ولما استشهد وجد به بضع وثمانون ما بين ضربة بسيف أو طعنة برمح، ولم يعرفه إلا أخته ببنانه ، وهي الربيع هذه، رضى الله عن الجميع وعنا معهم‏.‏

ويدل أيضًا لهذا القسم قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ‏:‏ ‏(‏رب أشعت مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره‏)‏ ‏.‏

القسم الثالث‏:‏ أن يكون الحامل له هو الإعجاب بالنفس، وتحجر فضل الله عز وجل وسوء الظن به تعالى، فهذا محرم وهو وشيك بأن يحبط الله عمل هذا المقسم، وهذا القسم هو الذي ساق المؤلف الحديث من أجله‏.‏

* مناسبة الترجمة لكتاب التوحيد‏:‏ أن من تألي على الله عز وجل، فقد أساء الأدب معه وتحجز فضله وأساء الظن به، وكل هذا ينافي كمال التوحيد، وربما ينافي أصل التوحيد، فالتالي على من هو عظيم يعتبر تنقصًا في حقه‏.‏

عن جندب بن عبد الله رضي الله عنه، قال‏:‏ قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ‏:‏ ‏(‏قال رجل‏:‏ والله لا يغفر الله لفلان، فقال الله عز وجل‏:‏ من ذا الذي يتألي على أن لا أغفر لفلان‏؟‏ إني قد غفرت له وأحبطت عملك‏)‏ رواه مسلم ‏.‏

قوله‏:‏ ‏"‏ قال رجل ‏"‏‏.‏ يحتمل أن يكون الرجل الذي ذكر في حديث أبي هريرة الآتي أو غيره‏.‏

قوله‏:‏ ‏"‏ والله لا يغفر الله لفلان ‏"‏‏.‏ هذا يدل على اليأس من روح الله، واحتقار عباد الله عند القائل، وإعجابه بنفسه‏.‏

والمغفرة‏:‏ ستر الذنب والتجاوز عنه، مأخوذة من المغفر الذي يغطي به الرأس عند الحرب، وفيه وقاية وستر‏.‏

قوله‏:‏ ‏"‏ من ذا الذي يتألي على أن لا أغفر لفلان ‏"‏‏.‏ ‏"‏ من ‏"‏‏:‏ اسم استفهام مبتدأ، ‏"‏ ذا ‏"‏ ملغاة، ‏"‏ الذي ‏"‏‏:‏ اسم موصول خبر مبتدأ، ‏"‏ يتألي ‏"‏‏:‏ يحلف، أي‏:‏ من ذا الذي يتحجر فضلي ونعمتي أن لا أغفر لمن أساء من عبادي، والاستفهام للإنكار‏.‏

والحديث ورد مبسوطًا في حديث أبي هريرة أن هذا الرجل كان عابدًا وله صاحب مسرف على نفسه، وكان يراه على المعصية، فيقول‏:‏ أقصر‏.‏ فوجده يومًا على ذنب، فقال‏:‏ أقصر‏.‏ فقال‏:‏ خلني وربي، أبعثت على رقيبًا‏؟‏ فقال‏:‏ والله، لا يغفر الله لك‏.‏

وهذا يدل على أن المسرف عنده حسن ظن بالله ورجاء له ولعله كان يفعل الذنب ويتوب فيما بينه وبين ربه، لأنه قال‏:‏ خلني وربي، والإنسان إذا فعل الذنب ثم تاب توبة نصوحًا ثم غلبته عليه نفسه مرة أخري، فإن توبته الأولى صحيحة، فإذا تاب ثانية فتوبته صحيحة، لأن من شروط التوبة أن يعزم أن لا يعود، وليس من شروط التوبة أن لا يعود‏.‏

وهذا الرجل الذي قد غفر الله له، إما أن يكون قد وجدت منه أسباب المغفرة بالتوبة، أو أن ذنبه هذا كان دون الشرك فتفضل الله عليه فغفر له، أما لو كان شركًا ومات بدون توبة، فإنه لا يغفر له، لأن الله يقول‏:‏ ‏{‏إن الله لا يغفر أن يشرك به‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 116‏]‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏"‏ وأحبطت عملك ‏"‏‏.‏ ظاهر الإضافة في الحديث‏:‏ أن الله أحبط عمله كله، لأن المفرد المضاف الأصل فيه أن يكون عامًا‏.‏

ووجه إحباط الله عمله على سبيل العموم حسب فهمنا والعلم عند الله‏:‏ أن هذا الرجل كان يتعبد لله وفي نفسه إعجاب بعمله، وإدلال بما عمل على الله كأنه يمن على الله بعمله، وحينئذ يفتقد ركنًا عظيمًا من أركان العبادة، لأن العبادة مبنية على الذل والخضوع، فلابد أن تكون عبدًا لله عز وجل بما تعبدك به وبما بلغك من كلامه، وكثير من الذين يتعبدون لله بما تعبدهم به قد لا يتعبدون بوحيه، قد يصعب عليهم أن يرجعوا على رأيهم إذا تبين لهم الخطأ من كتاب الله وسنة رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ويحرفون النصوص من أجله، والواجب أن تكون لله عبدًا فيما بلغك من وحيه، بحيث تخضع له خضوعًا كاملًا حتى تحقق العبودية‏.‏

ويحتمل معني ‏(‏أحبطت عملك‏)‏، آي‏:‏ عملك الذي كنت تفتخر به على هذا الرجل، وهذا أهون، لأن العمل أذا حصلت فيه إساءة بطل وحده دون غيره، لكن ظاهر حديث أبي هريرة يمنع هذا الاحتمال، حيث جاء فيه أن الله تعالى قال‏:‏ أذهبوا به إلى النار‏.‏

ونظير هذا مما يحتمل العموم والخصوص قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده فيمن منع الزكاة‏:‏ ‏(‏فإنا آخذوها وشطر ماله عزمة من عزمات ربنا‏)‏ ‏.‏

فقوله‏:‏ ‏"‏ وشطر ماله ‏"‏، هل المراد جميع ماله، أو ماله الذي منع زكاته‏؟‏

يحتمل الأمرين، فمثلًا‏:‏ إذا كان عنده عشرون من الإبل، فزكاتهما أربع شياه، فمنع الزكاة، فهل نأخذ عشرًا من الإبل فقط مع الزكاة، أو إذا كان عنده أموال أخري من بقر وغنم ونقود نأخذ نصف جميع ذلك مع الزكاة‏؟‏

أختلف في ذلك‏:‏

فقيل‏:‏ نأخذ نصف ماله الذي وقعت فيه المخالفة‏.‏

وقيل‏:‏ نأخذ نصف جميع المال‏.‏

والراجح أنه راجع إلى رأي الإمام حسب المصلحة، فإن كان أخذ نصف المال كله أبلغ في الردع، أخذ نصف المال كله، وإلا، أخذ نصف المال الذي حصلت فيه المخالفة‏.‏

وفي حديث أبي هريرة أن القائل رجل عابد‏.‏ قال أبو هريرة‏:‏ ‏(‏تكلم بكلمة أو بقت دنياه وآخرته‏)‏ ‏.‏

قوله‏:‏ ‏"‏ تكلم بكلمة ‏"‏‏.‏ يعني قوله‏:‏ والله، لا يغفر الله لك‏.‏

قوله‏:‏ ‏"‏ أوبقت ‏"‏‏.‏ أي‏:‏ أهلكت، ومنه حديث‏:‏ ‏(‏اجتنبوا السبع الموبقات‏)‏ ، أي المهلكات‏.‏

قوله‏:‏ ‏"‏ دنياه وأخرته ‏"‏ لأن من حبط عمله، فقد خسر الدنيا والآخرة‏.‏

أما كونها أوبقت أخرته، فالأمر ظاهر، لأنه من أهل النار والعياذ بالله، وأما كونها أو بقت دنياه، فلأن دنيا الإنسان حقيقة هي ما اكتسب فيها عملًا صالحًا، وإلا، فهي خسارة، قال تعالى‏:‏ ‏{‏والعصر * إن الإنسان لفي خسر * إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر‏}‏ ‏[‏العصر‏:‏ 1-3‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏قل إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ألا ذلك هو الخسران المبين‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 15‏]‏، فمن لم يوفق للإيمان والعمل الصالح، فقد خسر دنياه حقيقة، لأن مالها للفناء، وكل شيء فان فكأنه لم يوجد، واعتبر هذا بما حصل لك مما سبق من عمرك تجده مر عليك وكأنه لم يكن وهذا من حكمة الله عز وجل لئلا يركن إلى الدنيا‏.‏

وقوله‏:‏ ‏"‏ قال أبو هريرة ‏"‏‏.‏ يعني في الحديث الذي أشار إليه المؤلف رحمه الله‏.‏

* فيه مسائل‏:‏

* الأولى‏:‏ التحذير من التالي على الله‏.‏ الثانية‏:‏ كون النار أقرب إلى أحدنا من شراك نعله‏.‏ الثالثة‏:‏ أن الجنة مثل ذلك‏.‏ الرابعة‏:‏ فيه شاهد لقوله‏:‏ ‏"‏ إن الرجل ليتكلم بالكلمة‏.‏‏.‏ ‏"‏ إلى أخره‏.‏ الخامسة‏:‏ أن الرجل قد يغفر له بسبب هو من أكره الأمور إليه

فيه مسائل‏:‏

* الأولى‏:‏ التحذير من التالي على الله‏.‏ لقوله‏:‏ ‏(‏من ذا الذي يتألي على أن لا أغفر لفلان‏)‏ ، وكونه أحبط عمله بذلك‏.‏

* الثانية‏:‏ كون النار أقرب إلى أحدنا من شراك نعله‏.‏

* الثالثة‏:‏ أن الجنة مثل ذلك‏.‏

هاتان المسألتان اللتان ذكرهما المؤلف تؤخذان من حبوط عمل المتالي والمغفرة للمسرف على نفسه، ثم أشار إلى حديث رواه البخاري عن ابن مسعود رضي الله عنه‏.‏ أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال‏:‏ ‏(‏الجنة أقرب إلى أحدكم من شراك نعله، والنار مثل ذلك‏)‏، ويقصد بهما تقريب بهما الجنة أو النار، والشراك‏:‏ سير النعل الذي يكون بين الإبهام والأصابع‏.‏

* الرابعة‏:‏ فيه شاهد لقوله‏:‏ ‏(‏إن الرجل ليتكلم بالكلمة‏.‏‏.‏‏)‏ آخره‏.‏ يشير المؤلف إلى حديث‏:‏ إن الرجل ليتكلم ما يري أن تبلغ حيث بلغت يهوي بها في النار سبعين خريفًا‏"‏ ، أو ‏(‏أبعد مما بين المشرق والمغرب‏)‏ ، وهذا فيه الحذر من مزلة اللسان، فقد يسبب الهلاك، ولهذا قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ‏:‏ ‏(‏من يضمن لي ما بين لحييه وما بين رجليه أضمن له الجنة‏)‏ ، وقال لمعاذ‏:‏ ‏(‏كف عليك هذا‏)‏ يعني لسانة‏.‏ قلت‏:‏ يا رسول الله ‏!‏ وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏ثكلتك أمك يا معاذ‏!‏ وهل يكب الناس في النار على وجوههم أو قال‏:‏ على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم‏؟‏ ‏!‏ ‏)‏ ‏.‏

ولا سيما إذا كانت هذه الزلة ممن يقتدي به، كما يحدث من دعاة الضلال والعياذ بالله، فإن عليه وزره ووزر من تبعه إلى يوم القيامة‏.‏

* الخامسة‏:‏ أن الرجل قد يغفر له بسبب هو من أكره الأمور إليه‏.‏ فإنه قد غفر له بسبب هذا التأنيب، وهذه لم تظهر لي من الحديث ولعلها تؤخذ من قوله ‏"‏ قد غفرت له ‏"‏‏.‏

ولا شك أن الإنسان قد يغفر له بشيء هو من أكره الأمور إليه، مثل الجهاد في سبيل الله، قال تعالى‏:‏ ‏{‏كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئًا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئًا وهو شر لكم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 216‏]‏‏.‏

***